الثقافة التنظيمية (Organizational Culture) نظام من المعتقدات والقيم والتوقعات التي يتشاركها أعضاء المنظمة، ونظرا لتأثيرها البالغ على السلوكيات والممارسات وعلى أداء منظمات الأعمال الخاصة والعامة، فقد عُنِيَ بها الكتاب والباحثون الأكاديميون كما تلقاها الممارسون بمزيد من الاهتمام ليظهر بذلك مفهوم الثقافة التنظيمية لأول مرة في عام 1970م، عندما استخدمه ستانلي ديفيس، أستاذ إدارة الأعمال بجامعة هارفارد، في كتابه "إدارةٌ مقارنة: منظورات تنظيمية وثقافية" (Comparative Management: Organizational and Cultural). واستمر الاهتمام بهذا المصطلح في الثمانينيات، حيث استخدمه ديفيس مرة أخرى في مقال له للمقارنةِ بين خمسِ منظماتٍ من حيث ارتباط ثقافتها التنظيميـة بمسـتوى أدائهـا الاقتصادي.([1])
ولعل ذلك ما دفع الكتاب والباحثين لمزيد من البحث والتأصيل للثقافة التنظيمية لتصاحب تلك الطفرات المتسارعة في مجال المال والأعمال، حيث لجأت الدراسات المعاصرة لمحاولة فهم العلاقات بين المحددات الثقافية وطبيعة ومستوى الأداء في منظمات الأعمال، حيث توصلت في النهاية إلى وجود علاقة قوية بين الثقافة التي تتبناها المنظمة وبين نجاحها أو فشلها. فعندما تكون الثقافة قوية وإيجابية، فإنها تؤدي إلى جذب أفراد قابلين للتعلم والتدريب وبالتالي سرعة نموهم المعرفي والمهاري الذي يمكنهم من تجاوز الإجراءات الروتينية ويساعد في تعميق عناصر الالتزام الوظيفي وتشجيع العمل الجماعي ليصب كل ذلك في زيادة الإنتاجية ونمو الإبداع والابتكار وتنامي مستويات الرضا الوظيفي. أما عندما تكون الثقافة ضعيفة أو سلبية، فإنها ستؤدي إلى القضاء على الإبداع والابتكار وانخفاضٍ في معدلات الإنتاجية وارتفاعٍ في معدلات دوران العمالة (turnover) وانخفاض مستويات رضا العملاء وفي النهاية انهيار المؤسسة كنتيجة حتمية لذلك. ([2])
وبناء على ما سبق ولتمكين إيجاد حل جذري للقضاء على الثقافة التنظيمية السلبية التي قد تظهر في أي منظمة أعمال خاصة، يبرز السؤال الأهم وهو:
ماهي أهم الأسباب التي تُشَكِّل نوع الثقافة التنظيمية في منظمات الأعمال الخاصة، وبالأخص المؤسسات العائلية؟
والإجابة أنه يوجد عدد كبير من العوامل المؤثرة الداخلية منها والخارجية، والتي تسهم في تشكيل ثقافة منظمات القطاع الخاص (المتوسطة والصغرى) والشركات العائلية منها على وجه أخص، ولعل من أهمها: القيادة والقيم والتاريخ والتراث والبيئة الخارجية والأفراد والاستراتيجية والتكنولوجيا والبنية التنظيمية وغيرها..الخ.
ولكننا في هذا المقال سنركز على عامل قد يكون هو العامل الأهم من (وجهة نظر الكاتب) في تشكيل نوعية الثقافة المؤسسية التي تنمو وتترسخ في منظمات الأعمال الخاصة وبالذات الشركات العائلية، ألا وهي ثقافة ومعتقدات الرجل الأول فيها (المالك). ذلك أن الرجل الأول (المالك) إن كان يمتلك رؤية بعيدة المدى تتسم بالطموح ولديه قيما ومعتقدات ناضجة وإيجابية تدعم رحلته في تحقيق تلك الرؤية، فإن ذلك في الغالب يؤدي إلى ثقافة قوية وإيجابية في المنظمة. أما عندما يكون الرجل الأول (المالك) صاحب رؤية محدودة أو مشوشة ويمتلك ثقافة أو معتقدات سلبية، أو يكونوا عددا من الملاك وكل له رؤيته وتوجهه وقيمه ومعتقداته فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تكوين ثقافة ضعيفة أو سلبية في المنظمة. كما هو الحال بالنسبة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة حيث يلعب رب العمل دورًا رئيسيًا في تشكيل ثقافة الشركة. وذلك من خلال معتقداته وسلوكياته وأسلوب إدارته وقراراته، والتي تعكس قيمه وشخصيته. التي يكون لها تأثير على ثقافة المؤسسة إيجابيًا أو سلبيًا، وينتج عنها تأثره شخصيا بثقافة المحيطين به، لذلك يكون من الواجب عليه أن يكون على دراية بتأثيره، وبمن يتأثر بهم ونوع التأثير ونواتجه على ثقافة المؤسسة.([3])
ومما يؤسف له بأن من الملاحظة والملموس في واقع المال والأعمال في القطاع الخاص وبالأخص في العديد من الشركات العائلية وبالتحديد في المتوسطة منها والصغرى، أن رؤية وثقافة ومعتقدات الرجل الأول فيها (المالك، صاحب المال) وإلى جانبه آراء ومعتقدات من يتأثر بهم ممن بدؤا العمل معه، هي من تصنع تلك الثقافات العجيبة في تلك المؤسسات والتي يشكلونها بمرور السنين ولعل من المؤكد بأن ذلك ليس عن قصد منهم، إنما ذلك ما يعتقدون أنه صوابا، لتصبح تلك الثقافة التي تشكلت جسدا صلبا مكوناته وطبقاته: شخوص وعقول أفراد جامدين يعملون يوميا مثل الآلات، وأنشطتهم اليومية عبارة عن روتين عمل متكرر وقاتل ممزوج بسلوكيات وقيم تنظيمية محددة، غالبا تكون قيما منقولة من المجتمع الذي يعيشون فيه.
ففي بلادنا ( اليمن) مثلا: تجد الكثير من منظمات الأعمال الخاصة (ولا نُعَمَّمْ هنا) تسمح تلك المنظمات بتناول القات يوميا، الشَّمَّة*، التدخين، تناول وجبات الطعام في ساحات العمل ومنها أنواع من الطعام تبقي أثرا، مثل: الثوم وغيره، وكذلك النوم في مكان العمل، لبس ملابس شعبية في مقرات العمل، ضعف الاهتمام بالأسرة على حساب العمل، المكائد والتحاسد والتنافس غير الشريف، عدم الاهتمام بنظافة مقرات العمل وبالأخص دورات المياه والبوفيه، ومن ذلك الحديث مع العملاء والموردين بلغة الشارع وليس بلغة تجارية قد تراعي بيئة ولغة المجتمع ولكن بصفة منظمة تعكس ثقافة مؤسسية، وهناك المزاح المستمر أثناء العمل والذي قد يحمل معه ألفاظا نابية، وقد يشمل المزاح كذلك استخدام الأيدي، ضعف في الانضباط، ومضافا لما سبق عدم إيمان كثير منهم بأهمية التخطيط والتنظيم والتدريب واعتباره تنظير وضياع للوقت ..الخ.
ثم إن أولئك الذين تشكلوا بفعل الزمن وشكلوا تلك الثقافة السلبية في المؤسسات برعاية أرباب الأعمال، يصبحون للأسف حائط الصد الأول الذي يصعب غالبا اختراقه بأي نوع من أنواع التغيير والتطوير المؤسسي، بل ويشكلون عقبة كؤود في وجه إعادة تشكيل الثقافة المؤسسية لتحمل في طياتها التطوير والتنوير والانتقال إلى العمل المؤسسي والتنمية المستدامة واستخدام تكنولوجيا العصر.
وهنا يحصد أرباب العمل النتيجة الأولى لتشكيلهم تلك الثقافة السلبية في المؤسسة، ألا وهي: أنهم أنتجوا لسنوات طويلة عددا من الموظفين الذين أصبحوا أقزاما مترهلين، لم يحصلوا على التعلم والتدريب الكافي ليواكبوا نمو وحجم المؤسسة وتنوع أعمالها. مما يضطر أرباب العمل لمحاولة استبدالهم حينما يلمسوا أن هؤلاء الموظفين هم أحد أهم أسباب وجود المشكلات المستعصية في المؤسسة، ويتوصلوا إلى قناعة بأنهم لم يعودوا قابلين للتغيير والتطوير الشخصي والوظيفي. فيقعون بين نارين:
أولاهما: أن بعض هؤلاء أسسوا معه وبعضهم لديه أسرار عمله، فيقتضي العرف والوفاء وكذلك المصلحة إبقاءهم.
وثانيهما: ضرورة استبدالهم حتى تتمكن المؤسسة من مجابهة توسعها وتكون قادرة على المنافسة.
والنتيجة الأخرى التي يحصدها أرباب الأعمال: فقد الحصول على الكفاءات والموهوبين من سوق العمل، حيث أن أي منتسب جديد مبدع متمكن قد عمل في شركات كبيرة متطورة ومميزة يتم استقطابه لإحداث عمليات تغيير وتطوير مؤسسي، إما ان يلفظوه أو يلفظهم، ومع تكرر هذا الأمر تصبح المؤسسة سيئة السمعة لدى الكفاءات فيتجنبوا الالتحاق بها مهما كانت المغريات.
في ضوء ما سبق، يمكن توجيه النصح لأرباب العمل الذين صبغوا مؤسساتهم بثقافاتهم ومعتقداتهم الشخصية، أن يدرسوا الآثار التي نتجت عن تلك الثقافة من خلال القيم والسلوكيات السائدة في مؤسساتهم. فإذا وجدوا مؤشرات سلبية، فعليهم سرعة التحرك لإعادة صياغة الثقافة المؤسسية بناءً على منظومة قيم مختارة بعناية، وأن يقوموا بوضع نظم ووسائل قوية تمكنهم من حماية أي وافد جديد، لألا يتأثروا بكثرة الشكاوى الكيدية التي قد يتعرض لها المنتسبون الجدد. وعليهم تمحيص كل ما يصلهم من معلومات حولهم، حتى لا يستمروا في دوامة حل المشكلات فحسب فيتأخر التغيير والتطوير في مؤسساتهم، وتفوتها الكثير من الفرص، وحتى لا تظل حبيسة مشكلاتها التي تتراكم سنة بعد سنة، مما قد يصيبها بمرض التقزم أو أن تصاب بالانهيار.
وأمام ذلك، فإن القيادة هي المسؤولة الأولى عن ثقافة المنظمة، لأنها من يوجد الأفراد، ومن يضع النظم، ومن يحكم كل العمليات والسلوكيات التي تنشط في المنظمة، فهي بذلك من تحدد نجاحها وفشلها. ولذلك، فإن الحاجة إلى قيادة استراتيجية ذات رؤية وقيم ناضجة، تقود هذه العمليات والقيم والسلوكيات، أصبح ضرورة حتمية وبخاصة في هذا العصر الموسوم بالتغيير والتطوير المستمر. ([4])
لذلك، يا أرباب الأعمال، نصيحة مخلصة:
وفي الختام، لعل من المفيد أن نذكر قول مارثا جيمسون في مقالها "دور القائد في بناء الثقافة التنظيمية":
"ثقافة الشركة يجب أن تتغير إذا أرادت المنظمة البقاء والازدهار، وأن الدافع للتغيير والقرار بشأن الاتجاه الذي سيتخذه هذا التغيير يجب أن يأتي من الأعلى." ([5])
[1]عبد الملك محمد ملهي، "الثقافة التنظيمية في منظمات الأعمال" مادة تدريبية غير منشورة، 15/10/2023م ص: 11
[2] بوحنيه قوي، ثقافة المؤسسة كمدخل للتنمية الشاملة، دراسة في طبيعة العلاقة بين المحددات الثقافية وكفاءة الأداء، مجلة الباحث، عدد 02-2003، ص: 70-71
* الشمة: نوع من التمباك الذي يوضع في الفم وأو يتعاطى في الأنف عن طريق الشم، ويعطي مفعولا أقوى من السجائر.
[3] دحماني زهيرة، ورقة بحثية بعنوان: تأثير الثقافة التنظيمية على نمو المؤسسات الصغيرة والمتوسطة العائلية، إشارة إلى شركة الخدمات العامة و التجارة "آل دوداح" ببومرداس، ص: 576 -579 : https://www.asjp.cerist.dz
[4] شهيد هدى، أثر القيادة الإستراتيجية على الثقافة التنظيمية، بحث منشور في مجلة البديل الاقتصادي، العدد السادس، كلية العلوم الاقتصادية، التجارية و علوم التسيير، جامعة طاهري محمد بشار، ص: 242
[5] مارثا جيمسون ، دور القائد في بناء الثقافة التنظيمية، مقال بآخر تحديث في 13-فبراير 2023م منشور على موقع: https://blog.empuls.io