المقالات

المجاملات في المجتمعات ومنظمات الأعمال (أَدَبٌ يُؤْتَى أَمْ نِفَاْقٌ يُجْتَنَبُ)؟

Image placeholder

د. عبدالملك محمد ملهي

الرئيس التنفيذي

يتميز البشر بعدد من السمات والصفات التي لا تتوافر في سائر الكائنات التي يعيشون ويتفاعلون معها، وهي إما سمات وصفات إيجابية وإما سلبية، والبعض منها موجود فيهم بالفطرة والبعض الآخر مكتسب من التربية والبيئة المحيطة، ولعل من أبرز تلك الصفات التي يتميز بها الإنسان قدرته على الكلام والمناقشة والحوار والجدال واستخدام الحروف والكلمات والجمل لتوكيد ذاته وللتعبير عن أفكاره وتصوراته ومكنونات نفسه والإبانة عن خفايا مشاعره سواء كان ذلك التعبير تعبيراً صادقاً أو يحمل تحته مضمونا مغايرا لمقاصده، ولعل من أبرز تلك الصفات التي قد يظهر للبعض أنها تحمل نفس المعنى أو تتداخل فيما بينها للتعبير عن شيء واحد هي صفات: المداراة،
المداهنة، النفاق، والمجاملة، وحتى يزول ذلك اللبس أو الخلط الذي قد يقع فيه البعض حول معاني كلٍّ منها ولنتمكن من الحديث عن موضوع هذه المقالة (المجاملة) منفصلة عن المعاني الآخرى؛ فإنه يمكن بيان مفهوم كلٍّ منها في التعريفات الآتية:

المداراة: مأخوذة من الدَّرْء وهو الميل إلى أحد الجانبين، ودارأَه أي لاطفه ولاينه اتقاء شره، ويقال داراه، وكذلك دريته أي لايَنْتُهُ، وتستخدم للرفق بالجاهل عند تعليمه وللفاسق عند نهيه عن منكرٍ يقترفه بترك الغلظة عليه تألفا له أو اتقاء لِشَرِّ ما قد يفعله لو تم إغلاظ القول له وكان قادرٌ على إنفاذ ذلك لأنه ذو مكانة أو سلطة، وهي مَنْدُوْبَةٌ في الشرع الحنيف، ولهذا فقد ذكر الفقيه ابن حجر نقلا عن العلامة ابن بطال، بأنها من أخلاق المؤمنين، وفيها خفض الجناح للناس ولين القول لهم وترك الغلظة عليهم فذلك من أقوى أسباب التأليف بينهم. ([1])

المداهنة: مأخوذة في اللغة من الدهان، وهو تلك الطبقة التي تغطي الشيء وتستر باطنه، وهي محرمة شرعا، ومعناها مسايرة الآخرين وقبول ما يفعلونه مما ينكره الشرع أو العرف الصحيحين، فقد نُقِلَ عن الإمام الجرجاني رحمه الله قوله: بأن المداهنة هي أن يرى الشخص منكرا يستطيع دفعه ولم يقم بذلك إما حفظا لجانبِ ومكانةِ مرتكبهِ أو حِفْظاً لجانب ومكانةِ غيره أو لقلة مبالاة في الدِّين. ([2]).

ويمكن التفريق بينهما بما أبدع في إيراده ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال: "المدَاراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما: أن المدَاراة تلطُّف الإنسان بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المُدَاهِن، فهو الذي يتلطَّف مع صاحبه ليُقرَّه على ذنب أو يتركه على هواه، فالمدَاراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق، وقد ضُرِب لذلك مثلٌ من أروع الأمثلة، وذلك كرجل أصابته قرحة في قدمه، فجاء الطبيب الرفيق، فأخذ يُعالج هذه القرحة، ويُخرج ما فيها، ثم إذا به يضع الدواء الذي يُنبت اللحم، ثم يتعاهدها، ثم يضع عليها المراهم حتى ينشفها، ثم يضع عليها خرقةً، فلا يزال يُتابع هذا وهذا حتى نشفت رطوبتها، وأما المداهن فهو الذي أتى إلى صاحب هذه القرحة وقال: لا بأس عليك، إنما هي شيء يسير، واسترها عن عيون الناس بخرقة وتلهَّى عنها، فلا يزال يزداد شرُّها وتكثر عفونتُها حتى يهلك." ([3])

الِّنفاق: في مصطلح الشرع الحنيف: "هَو أن َيْسُتر الَّرجُل ُكْفَره وُيْظهر ِإيَماَنُه". فالمناِفق هو الذي يخالف قولَه فعْلَه، وسرَّهُ علانيتَه، ويخالف مٌدْخَلَه ُمَخْرَجَه، ويخالف مشهَدَهُ مَغِيْبَه". ([4])

وبما أن منظمات الأعمال الخاصة والعامة ماهي إلا مجتمعات مصغرة وعنصرها الأساس هو الفرد، وبما أن العامل الأهم في خلق بيئة عمل صحية هو العلاقات البينية بين الأفراد وبين بعضهم وبين الأفراد وقياداتهم، ونظرا لما قد يأخذه الاسترسال في شرح جميع الصفات التي تم الاقتضاب آنفا في بيان معانيها؛ فإنه سيتم الاقتصار هنا على التوسع في شرح صفة المجاملة وبيان أثرها في الحياة الوظيفية على الفرد والمنظمة، ذلك أن الكثير يسأل، هل المجاملة من الناحية القيَمِيَّة صفة إيجابية أم سلبية؟ وما حكمها من الناحية الشرعية، وكيف يمكن استخدامها لتحسين العلاقات الوظيفية؟ وهل هناك حد فاصل بينها وبين الصفات السالف ذكرها أم ماذا؟

لبيان ما سبق ذكره؛ فإنه يمكن البدء بالحديث عن المجاملة كمفهوم في معاجم اللغة العربية والتي تبين بأن المجاملة إحدى وسائل تعبير الفرد عن مشاعر قد تكون صادقة أو كاذبة، فالمجاملة في اللغة مأخوذة من تَجَمَّل في الكلام: أي تلطّف فيه، وأظهر الأدب والبشاشة، وسايره فِي كَلاَمِهِ مُجَامَلَةً أي تَأَدُّباً لَهُ لاَ عَنِ اقْتِنَاعٍ أَوْ تَسْلِيمٍ. ([5])، وفي هذا الصدد يذكر براون وليفينسون (وهو أحد الباحثين في استراتيجيات التأدب الإيجابي والسلبي) بأن لغة المجاملة هي: ذلك الفعل اللغوي الذي يلبي الاحتياجات الإيجابية لوجه الفرد، متضمنةً رغبته الكامنة في الحصول على تقديرٍ أو توكيدٍ لصورته الذهنية لدى الآخرين ([6]).

وفي الشرع الحنيف؛ فإن المجاملة تُعَدّ من المباحات، بشرط ألا تنطوي على كذبٍ وألا يضيع معها حقٌّ لأحد ([7]). والمجاملة على حالتين هما:

الحالة الأولى: مجاملة لِحَدَثٍ أو أَمْرٍ قد تم وانتهى ولا مجال للعودة فيه، مثل: أن يكون أحد أصدقائك أو زميل أو رئيس لك في العمل، اشترى بدلة أو ساعة أو وقع عقد عمل أو صفقة أو نحو ذلك من التصرفات أو الأقوال أو الأفعال، وقد فرغ من ذلك الأمر وانتهى منه.

الحالة الثانية: أن تكون المجاملة في حَدَثٍ أو أمرٍ مستقبليِّ لم يباشره من ستقوم بمجاملته وإنما لا يزال يفكر فيه أو يخطط للقيام به.

هنا تتضح كيفية الاستخدام الأمثل للمجاملة وموقعها في الحالتين، ففي الحالة الأولى التي قد وقعت الأحداث فيها وتمت وانْقَضَتْ وليس من سبيل للرجعة فيها، يمكن استخدام المجاملة لإبداء الرأي إن طُلِبَ منك، ولكن دون مبالغة أو مدح كاذبٍ، ومثالها أن يسألك صديق عن رأيك في شيء يخصه وتراه مقتنعا جداًّ به أو قد صار معه وانتهى الأمر، وأنت تراه غير ملائمٍ له أو لم يكن موفقا فيه، وتكون مضطرا للإجابة دون أن يأخذ عنك صورة ذهنية سلبية أو تتسبب في إحراجه أو جرح مشاعره، في هذه الحالة تبرز أهمية المجاملة كسبيل للتعبير عن الذات والمشاعر تجاه ذلك الأمر أو الموقف بما يحدث التوازن بين قول الصراحة المهذبة والبعد عن الكذب والمداهنة والنفاق، ويكون استخدام المجاملة هنا حلا سحريا لك يأتي كبديل عن الصراحة الشديدة التي قد توقعك مع صاحبك أو زميلك في باب الوقاحة، أو الاضطرار لقول رأي كاذبٍ مُوَشَّى بألفاظٍ يزين ذلك الكذب، أو يضاف إليها المداهنة بالسكوت عن حق كان يجب قوله أو فعله فيدخل صاحبه في النفاق من أوسع أبوابه.

 وبناء على ذلك؛ فإن المجاملة تكون بإبداء الرأي مستخدما ألفاظاً توصل المعنى بلباقة وأدبٍ تذكر من خلالها الأمور الحسنة، وتشير ( إن كنت مضطرا) إلى ما لا تراه حسنا بطريقةٍ مهذبةٍ توصل المعنى للآخر دون أن تجرحه أو تؤذي مشاعره أو تحرجه، أما إن كان رَدُّكَ عليه بالسئوال عن كم وكيف وماهي صفات ما اشتراه أو ما وقع فيه من قول أو فعل ليكون هدفك انتقاده، فتقول له بعدها: والله أنهم قد لعبوا عليك أو أنت ما تعرف تشتري أو ما تعرف تتكلم، أو ما طلعت رجل في ذلك الموقف ؟!..الخ، فإن ذلك قد يحزنه أو يحرجه أو يؤلمه بخاصة إذا لم يعد في الأمر من سبيل لفسخ عقد البيع أو رد ما تم وانقضى، وهكذا في كل أمر تم وانتهى، ينبغي عليك محاولة إعطاء رأي مقتضب بألفاظ إيجابية، ويمكنك مدح أي جانب إيجابي من ذلك الشيء أو الفعل أو القول أو التصرف في محله دون زيادة عما يستحقه، منتبها في ذات الوقت بأن ما قام به أو فعله الآخر أمر يخصه ولا ولن يقع بسببه تضييع لحق لآخرين أو تفريط في دين أو عرض وإلا فإن ذلك ليس بمجاملة وإنما يدخل في باب المداهنة والنفاق والعياذ بالله تعالى.

أما المجاملة في الحالة الثانية: مثل: أن صديقك أو زميلك أو رئيسك في العمل سينوي على سبيل المثال: شراء سيارة أو بدلة أو سيوقع عقد عمل أو سيتخذ قرارا مَّا أو سيشترك في منافسة إلى غير ذلك من المعاملات سواء استشارك أو أنك علمت بذلك؛ فإن من الخطأ هنا أن تداهنه أو تجامله أو تنافقه إن رأيت أنه مقبل على الوقوع في خطأ سواء كان فيه الضرر عليه وحده أو على غيره، بل عليك المبادرة بإبداء النصح له مراعيا أدب التخاطب والحوار، فذلك أمر أوجبته عليك تعاليم دينك، واستخدام المجاملة هنا تصَرُّفٌ مذمومٌ لأنه سيكون نوعاً من التغرير بصديقك أو زميلك أو رئيسك في العمل، والتغرير بالآخرين أمر محرم شرعا، حيث يبين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عَنْ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ - رَضْيَ اللهُ عَنْه - قَالَ: "بَايَعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم علَى إقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والنُّصحِ لكلِّ مُسلمٍ"([8]).

فالمجاملة في الأساس أمر إيجابي نحتاجه في حياتنا، ولكن استخدامها في غير محلها أو ممارستها بطريقة زائدة عن حدها أمر قد يحولها إما إلى كذب أو نفاق، أو إلى وقاحة وسوء أدب وتخريب علاقة مع من حولنا، فالهدف الأساس منها هو إظهار التجمل واللطف مع الآخر رجاء كسب مودته وعدم كسر قلبه، مثل: أن تقول لصديقك إن سألك وقد لبس ثوب العرس (كيف أنا) فتقول له أنت اليوم نجم الحفل، (وهذا المعنى صحيح لأنه سيكون في أبهى حلة وزينة ممكنة، وبالفعل سيكون في يوم عرسه محل اهتمام الجميع). وما أجمل قول الشاعر القدير جبران خليل جبران واصفا استخدام المجاملة في محلها وبقدرها حين قال:  ([9])

لا شَيءَ أَجْملُ مِن مُجَامَلَةٍ إِذَا

صَدَقَتْ وَجَاءَتْ مِن وَفِيٍّ شَاكِرِ 

ويمكن أن نشير هنا إلى بعض تلك الاستخدامات الخاطئة للمجاملات في حياة الكثير من الناس هذه
الأيام، وخصوصا في منظمات الأعمال العامة والخاصة، مثل: أن يتجمل أحدهم مع قريب له أو صديق فيقدمه على غيره في منافسات معينة، مثل: منافسات التوظيف أو الترقية أو التسوية المالية، أو الحصول على مساعدات عينية أو مالية أو قروض أو مكافئات أو تسويات وظيفية أو غيرها، مع وجود من هو أحق وأكفأ منه، أو تقديم صديق أو قريب على غيره في إنجاز معاملات له على حساب أوقات أو مستحقات الآخرين، إلى غير ذلك من الصور التي تنتهك حقوق أناس لصالح آخرين لا يستحقونها إلا لصداقتهم أو معرفتهم أو أنهم من أفراد العائلة أو من البلاد، أو أن تتم المجاملة لشخص بعينه، لأن لنا مصلحة عنده أو لأنه تبع لصاحب منصب أو جاه، أو صرف المصلحة لشخص لا يستحقها بُغْضاً أو كراهيةً لمن يستحقها.

إن كل تلك الأفعال السابق ذكرها يجرمها الشرع الحنيف لأنها تدخل في باب التعاون المذموم والموصوف بأنه إثم وعدوان، وهو المنهي عنه في قول الحق سبحانه وتعالى" وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"([10]). ويدخل كذلك في أبواب النفاق والمداهنة أو خيانة الأمانة أو الظلم، ومن باب توسيد الأمر لغير
أهله، وكل ذلك مما نهى عنه رب العزة والجلال سبحانه وتعالى ومما نهى عنه رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، وهو أيضا مما ينبغي على الإنسان السوي والرجل المهني والمسلم الحق أن يتجنبه، لأن نتائجه خلق بيئات حقد وكراهية في نفوس الناس لبعضهم وتدمير للعلاقات المجتمعية عموما وفي الحياة الوظيفية بوجه أخص.

إن وجود مثل تلك المجاملات في بيئات منظمات الأعمال لأمر بالغ الخطورة؛ لأنه يضع علاقات الموظفين موضع المصلحة والنفعية القائمة على مبدأ (انفعني وانفعك) دون التقيد بضوابط المهنية والشرع، فينتفي بذلك مبدأ العدالة والإنصاف وتنمو بذور الفساد المالي والإداري الذي تتغلب فيه مصالح أفرادٍ على آخرين، فتكون النتيجة ضعفٌ في الأداءِ وتدنٍّ في الإنتاجية العامة للشركة، في مقابل صعود حالات الاحتقان والصراعات والشللية التي تجعل المنظمة موطناً طارداً للكفاءات مُسَرِّباً للمواهب إلى خارجها، ويصبح الخاسر الأول هو المنظمة وملاكها، ولهذا وجب أن تحدد الإدارة العليا قيمها الجوهرية، وتضع مؤشرات سلوكية واضحة المعالم يكون مالكوا المنظمات ورعاتها هم القدوة في تطبيقها ومراقبة مؤشرات نموها، وأن تكون تلك القيم أساساً لقبول توظيف الأفراد في المنظمة، جزءًا أساسياً من تقييم الأداء السنوي للأفراد في كافة المستويات التنظيمية، وأن ترعى القيادة العليا في كل منظمة بناء ونشر منظومة ثقافة مؤسسية تقوم على تلك القيم وتحارب أي ظواهر أو سلوكيات أو تصرفات سلبية وتشجع كل سلوك وتصرف حسن يعلو بثقافة الأداء وحسن التصرف؛ لأن كل ذلك سيصب في النهاية في صنع بيئة عمل مشجعة تحتضن مواهبها الحالية، وتكون عامل جذب واستقطاب للمواهب من سوق العمل، وفي مقابل ذلك ستقوى مناعة المنظمة لتصبح جسدا طاردا لأصحاب المصالح الضيقة من المتملقين ممن يحسنون تصنع الكلام ويستخدمون المجاملات في غير موضعها لتحقيق أغراضهم الشخصية، وتسود ثقافة تحسين الإنتاجية والإبداع بدلا من الانشغال في إدارة المحسوبية والصراع.



[1] يحي شطناي، المجاملات وأثرها على العلاقات بين الناس في ضوء الكتاب والسنة، ص، 2، بحث منشور 28-8-2018م، درار الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية، https://www.aliftaa.jo   

[2] المصدر السابق   

[3] عبده قايد الذريبي، الفرق بين المدَاراة والمداهنة، مقال منشور في 9/12/2018 على شبكة الألوكة على الإنترنت، https://www.alukah.net

[4] أسامة بدوي، تعريف النفاق، مقال منشور في 11/1/2017 المصدر السابق.

[5] قاموس المعاني: https://www.almaany.com

[6] قاموس المعاني: https://www.almaany.com

[7] مــوقع ويكبيديا: https://ar.m.wikipedia.org   

[8] شبكة الألوكة الشرعية على الإنترنت: https://www.alukah.net

[10] القرءان الكريم، سورة المائدة في الآية (2) من السورة.