عند عودتي إلى المنزل بالسيارة يوم أمسي استوقفني أحد الأصدقاء ليرافقني، وتصادف أن طال بنا الطريق بسبب اكتظاظه بتلك المركبات التي نراها تملؤ الطريق على امتداد شارع الستين وعلى جسر مذبح في مدينتنا الفاتنة صنعاء بسبب توقف إحدى المركبات الكبيرة في وسطه، ولما وجد الصديق بأن الوقت علينا قد طال، توجه إلى بسؤال قائلا: يادكتور انصحني ماهي أفضل وظيفة يمكن أن تحقق أحلامي وتشبع طموحي؟
ومن المؤكد بأنه توقع أن أسرد له بعض مسميات الوظائف التي ستدر عليه الربح وتحقق له طموحاته، ولكنه تفاجأ حينما سمع إجابة أخرى، حيث قلت له: بأن أفضل وظيفة تحقق أحلامك وتشبع طموحك إذا ما منحتها جل وقتك لتنميها وسهرت في سبيل تطويرها هي " صفاتك وقدراتك" وشعرت بأن علامَتَيْ استفهامٍ وتعجبٍ كبيرتين قد رُسِمَتَاَ على مُحَيَّاه بعد سماعه هذه الإجابة، فبادرني بقوله: أقصد الوظيفة التي تناسبني وستمكنني من تطوير نفسي؟ فقلت له صحيح أن بعض الوظائف والمهن قد تكون مُرْبِحَةً وتُفَضَّلُ على غيرها، ولكن هذا لا يجعلها الأفضل لكل الناس، ذلك أن لكل شخص سمات وصفات وقدرات هي التي تمكنه من أن يكسب من تلك الوظيفة أو يخسر، ولذلك هناك مِهَنٌ، مثل: مهنة الطب، والمحاماة والطيران، وهندسة النفط، مهن قد تكون مُرْبِحَةً ولكن ليس كل من شغلها حقق طموحاته أو اشتهر وأصبح علما في مجاله، ، كما أنهم ليسو جميعا بهذه الوظيفة أو المهنة قد أشبعوا طموحاتهم، فليس جني المال وحده كل شيء وإلا فإنك في الواقع ستجد أغنياء كثيرون جدا، وهم على هوامش الحياة ولم يعرفهم أحد ولم يحققوا للناس أو لأوطانهم شيئا يُذْكَرُوْن بِه ولا لأنفسهم مجداً يتفاخرون به، وجل ما حققوه تلك المُتَع اللَّحْظِيَّة الشَّخْصِية، وهذا أقوله عن واقع ملموس ومعرفة بأناس هذا حالهم ياصديقي العزيز.
رأيت الاهتمام بادٍ أكثر على صديقي ليصِل إلى النتيجة التي يرغب في الحصول عليها، وقبل أن يسأل بادرته قائلا: ياعزيزي من وجهة نظري إن من يبحث عن وظيفة تحقق الأحلام وتشبع الطموح إنما يبحث في الحقيقة غالبا عن إطار يضعه حول رقبته وصندوقا يحد من فضاءات إبداعاته وتحقيق طموحاته، فالوظائف مهما كَبُرَتْ أو عَظُمَتْ، تبقى في الأخير خطوات في سُلَّمِ الوصول إلى الغايات في المؤسسات، ومهما ارتقى الموظف فيها فإنه يبقى في الحقيقة موظفا يصنع له الآخرون درج الوصول، وقد يكون هو نفسه لديه إمكانيات تجعله هو من يوظف آخرين ويصنع لهم سلالم الوصول في مؤسسته الخاصة.
وبما أن لقاءنا أوشك على الانتهاء حيث انفرجت أزمة المركبات فوق جسر مذبح، وقد اقترب
وقت الإفطار، وبذات سرعة السائقين الجنونية قبل وقت الإفطار حاولت إنهاء حديثي مع صدقي العزيز بجوابٍ رَجَوْتُ أن يُشْبِع فضوله فقلت له: إن سبر أغوار النفس وفهم الشخصية ومعرفة ميول ورغبات ومدى إمكانيات وقدرات ومواهب الفرد، هي ما يجب أن يبدأ به الواحد منا، وإن كان غير قادرٍ على ذلك فعليه أن يستعين بمن يساعده في التعرف على ذاته أولاً، وبعد رَصْدِهِ لأنواع مُيُوْله ورغَباته وما يمتلكه من سمات وصفات ومواهب وقدرات، هنا يبدأ التحرك المقصود إما نحو الوظائف أو نحو السوق ( العمل الحر)، فإن أحسن اختيار الاتجاه بدايةً ( سواء العمل الحر أو الوظيفة) فقد ضمن النجاح، وعليه ألا يخاف بعد ذلك لأنه قد أصبح في الاتجاه الصحيح؛ وهنا لابد من محرك (مولد كهربائي داخلي) يزوده بشحنات الاستمرارية وهو الشغف بما سينجزه، والصبر عليه؛ فإن " النصر مع الصبر" كما أخبر الحبيب (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه أن يُرَكِّز على تطوير وتحديث معرفته ومهاراته وصفاته التي تدعم اختياره، ويركز على اتجاهه وألا يستسلم أبدا تحت أي ظرف، وأن يستفيد من إخفاقاته ويجعلها وقودا للاستمرار، وعليه أن يلاحظ تجارب الآخرين في المجال الذي اختاره ويضع لنفسه كل فترة مقياس مرجعي ليتخطاه، وهكذا ..، والناظر في سير حياة أولئك الذين برزوا في الحياة الاقتصادية كعمالقة، من أرباب الأعمال، مثل: هنري فورد، وبل جيتس، واستيف جوبز وغيرهم ممن برعوا كأرباب أعمال وليس كموظفين، والنظر كذلك في عمالقة آخرين كانوا موظفين مثل: جاك ويلش وغيره سيجد بأنهم جميعا لم يقفوا عند وظيفة واحدة، وبأنه لم تمثل لهم وظيفة بعينها وظيفة الأحلام، بل إنهم جعلوا كل وظيفة شغلوها حلقة قصيرة تساعدهم في الانطلاق إلى ما بعدها وداعما لتوصل كل منهم إلى الغاية النهائية التي أوصلتهم إلى العالمية.
والخلاصة: يمكن أن نوجزها بعبارة جليلة مأثورة عن أمير المؤمنين علي بأن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حيث قال: "قيمة كل أمرئ ما يحسنه"
ودعني صديقي بعد أن وصل إلى وجهته وشعرت بأني قد أثرت لديه موضوعا قد يساعده في بدء قصة مختلفة بعد إجازة العيد.