معلوم بأن الحارس الشديد المتحفز للعمل يؤدي دوره دون توانٍ ويعمل بجد وإخلاص ولا يترك مهمته حتى تكتمل، ولا يتدخل في عمل الآخرين وقد يرسم لنفسه حدود اختصاصاته وفقا للمهمة التي تم توجيهه بها ولا يخرج عنها أبدا بل ويستمر في أدائها كعمل روتيني يومي
( وكما لو أنه يستمتع بهذا الروتين)، وغالبا لا يفكر كثيرا حيث يترك هذه المهمة لرئيسه في العمل، وقد يتطور في أداء أدواره ولكن بشكل محدود وبالقدر الذي يمكنه منه رئيسه، وغالبا ما يستمر أفراد الحراسة دون قراءة أو تدريب سنوات طويلة مما يؤدي إلى جمودهم الفكري والذهني وبالتالي كثيرا ما يصبحون أوعية جيدة لتنفيذ التعليمات، ويغلب على تصرفاتهم الروتينية وكأنك تتعامل مع رجل آلي يفهم ما يتم برمجته عليه، بل إنه في بعض قطاعات الأعمال العامة أو الخاصة قد يتحول الحارس إلى منفذ لا يعي من الصح والخطأ إلا ما يقدم له من رئيسه في العمل.
أما الراعي فإنها لفظة تطلق ويقصد بها كلُّ من وُلِّي أمرًا بالحفظ والسِّياسة، حيث يقال راعى الشَّيءَ رعاه أي حفظه ([1]) . وبهذا المعني فهي تشمل كل مسئول أُوْكِل إليه مهمة أو عمل لحفظ ورعاية وسياسة أمر ما سواء كان ذلك إنسانا (كالوالد والمربي والشيخ والمعلم والمدير والرئيس والمشرف...الخ) أو كان شيئا ماديا، مثل: الزرع ونحوه أو كان طيرا أو حيوانا أو مكانا يحرسه أو عملا يؤديه أيا كان نوعيه أو شكله، ومن هنا يتبين
والمقصد هنا أن دور الراعي أعم من دور الحارس، فالحارس يأخذ شكل من يحفظ الشيء كما هو دون إحداث أي تغيير أو تعديل فيه، مثل: حارس السجن، حارس المرمي، حارس الموقع ..الخ، وأدواره واضحة محددة وعمله روتيني بحث، بل قد يوجه بأن يؤذي أو يتلف ما يحرسه، مثل: حارس السجن، أما الراعي تتضمن دور الحارس من حيث المبدأ لكن مهمته سامية راقية؛ فالراعي يَرْقَى بمهمته ليحمل معه الحب والمساندة والحزم فهو يًعَلِّم ويواسي ويؤدب ويشكر ويُنَمِّي ..الخ، وذلك حسب حال واحتياج من أو ما تتم رعايته؛ ولعل ذلك ما يشير إليه معنى الحديث المأثور عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، ولنا هنا أن نتساءل ماهي أبرز المواصفات التي ينبغي توافرها في من يضطلع بتلك الأدوار التي يؤديها الراعي الأمين والتي ستفرق بينه وبين أدوار الحارس وما هي أوجه الرعاية المطلوب منه أن يهتم بها.
إن الرد على هذا السؤال يقودنا إلى القول بأن من أبرز الصفات التي ينبغي أن يتصف بها الراعي الحاذق أن يكون أمينا على من يرعاه ولكي يكون أمينا ينبغي أن يتمتع بصفة القوة، ومصطلح القوة هنا مصطلح عام قد يدل على القوة الفكرية الذهنية أو العضلية البدنية أو كلاهما، وقد يدل على مستوى التمكن الذي ينبغي توافره لدى الراعي في المعرفة والمهارة الضروريتان لأداء عمل وسياسته وحفظه على الوجه الصحيح، ويبدو هذا الأمر جليا في كتاب الله تعالى بوروده على لسان ابنة شعيب مبررة سبب اختيارها لنبي الله موسى عليه السلام للتعاقد معه كأجير لدى أبيها فقالت " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين" وعلى لسان نبي الله يوسف عليه السلام حينما قدم مهارته في حفظ البلاد من القحط على المعرفة فقال: " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، وقد ورد بيان ذلك كما في تفسير القرطبي للآية الكريمة: " ... اجعلني على خزائن الأرض أي على حفظها ، فحذف المضاف . إني حفيظ لما وليت عليم بأمره. وجاء في التفسير أيضا : "إني حاسب كاتب" ([2]) وكأنه يصف مستوى التمكن الذي لديه كعلم ومهارة ليتولى هذه المهمة بجداره.
ولربط الموضوع بأصل معاناة المنظمات فيما يتعلق بحسن اختيار وسياسة وحفظ المورد البشري المنتج؛ فإن من المعلوم بأن من يرعى الموارد البشرية ( الموظفين) في أي منظمة هم مدير وفريق عمل يسمى ( إدارة الموارد البشرية) ويعتبر مساعد للقيادة العليا للمنظمة وأربابها (مالكيها) في رعاية مواردهم البشرية لتكون قوة منتجة وفاعلة، وبالتالي هل نجد في منظماتنا العربية عموما ومنظماتنا المحلية ( اليمنية) على وجه الخصوص في موظفي إدارات الموارد البشرية من المعارف، المهارات، الصفات، السمات ما يؤهلهم حقا ليكونوا الراعي الأمين
"الحفيظ العليم" أو "القوي الأمين"؟ وهل يعي أرباب العمل والقيادات العليا للمنظمات بأنواعها أنهم يمتلكون حراسا أم يمتلكون رعاة، وهل لا يزالون يرمون بمن لا يحسنون عمل شيء أو من لم ينجحوا في أعمالهم ليعينوهم موظفين لإدارة الموارد البشرية وهل يصفون المحصلة النهائية لأداء إدارات الموارد البشرية في منظماتهم بأنهم يعملون كشرطي حراسة على الموظفين لا يفعلون شيء سوى تنفيذ الجزاءات وصرف الرواتب بعد إيقاع الخصيمات أم أنهم يستطيعون وصف فريق عمل الموارد البشرية لديهم أنهم يؤدون أداء الراعي الأمين الحاذق ، وهل الدور المطلوب من شاغلي هذه الإدارة المهمة هو أن تكتفي بدور الشرطي أم تقوم فعلا بدور الراعي المتميز.
الحقيقة أن المتطلع في واقع الكثير من منظماتنا يجد أن كثيرا من أرباب العمل والقيادات العليا تريد أن يكون الدور (دور الراعي الأمين الحاذق) ولكن للأسف تصرفات الكثير منهم في واقع الأمر لا تزال تشي بغير ذلك ولعل هذا يتضح مما يلي:
وبنظرة فاحصة نجد أنه لا يمكن إلقاء اللوم الكامل على أرباب العمل أو القيادة العليا وحدهم بل يتحمل مسئولية المشاركة معهم قيادات فرق عمل الموارد البشرية في المنظمات؛ فالكثير منهم إما أن يكون راضٍ بوضعه بل ربما يستمتع أن وجد نفسه شرطيا يمارس السلطة على الموظفين فيؤدي بذلك دور حارس متعصب، وقد يكون ذلك بقصد منه لأن رب العمل يريد ذلك عاملا بالمثل المصري القائل " أربط الحمار محل ما عايز صاحبه" أو أن قدراته وسماته الشخصية محدودة وبالتالي فهو يرى أنه يقوم بدوره كما يجب ولا يدري ما هو الدور الحقيقي الذي ينبغي عليه القيام به تجاه المورد البشري.
وإذا فالدور متكامل والمسئولية مشتركة بين أرباب العمل الذي لا يزال الكثير منهم يعيشون أجواء القرن الثامن عشر ويحملون الفكر التايلري ( نسبة إلى تايلر مؤسس الإدارة العلمية) الذي ينظر إلى الموظف على أنه آلة إنتاج وليس شريكا له في المنظمة وبالتالي لا يقدم له الدعم النفسي والاجتماعي والتنموي ويخب أن يأخذ من الموظف الكثير ويتألم أن يعطيه القليل.
وخلاصة القول: إن من يرى أنه لا يزال بحاجة إلى ممارس دور الحراسة ( سواء كان رب عمل أو كان مديرا أو موظفا في إدارة الموارد البشرية) ينبغي عليه أن يفيق فهو إنسان يعيش بالتفكير وليس بالغريزة وهو الكائن المُكَرَّمٌ المُطَوِّر المُبْدع، وعليه أن يصعد من الحفرة التي أوقع نفسه فيها وهي استمرار ممارسة هذا الدور الذي لن يعود عليه وعلى منظمته ولا موظفيها سوى بمزيد من التقهقر والاندثار، بل باستمرار ممارسة هذا الدور قد يكون أحد أهم أسباب دمار المنظمة وانسحابها من السوق، وعليه أن يدرك بأن قيامه بدور الراعي الأمين الحاذق هو الدور الذي ينبغي أن يقوم به، وإنه لمن الأهمية بمكان أن تتم الإشادة في هذا المقام بكل أرباب العمل والقيادات العليا في قليل من منظماتنا العربية والمحلية الذين انتبهوا لهذا الدور منذ فترات وشهدت منظماتهم توسعا وانتشارا وسمعة حسنة بغض النظر عن التعثرات هنا أو هناك.
ولذلك فإنه صار من أوجب الواجبات أن يبادر كل أرباب الشركات والمؤسسات إلى تزويد إدارة الموارد البشرية بأفضل الكفاءات حتى تكون المساعد والراعي الأمين على أهم مواردها البشرية، وإلا ففاقد الشيء لا ولن يعطيه، فكيف تريد المنظمة توسعا وانتشارا وإنتاجا وكفاءة عالية من الموظفين وهي قد وضعت عليهم شخصا أو فريقا بائسا ضعيفا ليس لديه ما يقدمه لهم من رعاية وتنمية وحفظ.
كما أن الأمر واجب على كل من تولى من أمر الناس شيآ أن يقوم بدور الراعي الأمين الحاذق وأن يحقق مبادئ القوة والأمانة والحفظ والعلم في حياته ليكون قادرا على رعاية من ائتمنه الله على رعايته سواء في مجال المؤسسات والشركات والمنظمات العامة والخاصة أو المختلطة أو في غيرها من تجمعات الحياة ولعل من أهمها الأسرة، حيث إن ذلك يعتبر من أوجب ومقتضيات الدين أولا والإنسانية ثانيا، وتطبيقاً للمناهج الحديثة في الإدارة والقيادة والتربية ثالثا، ومن أفضل الممارسات في المنظمات المتقدمة رابعا، حيث تلك المنظمات الرائدة موردها البشري هو رأس مالها الحقيقي فقدمت له الاختيار السليم للوظيفة التي تناسبه ثم دعمته بإيجاد أفضل وسائل وأدوات التكنلوجيا والبيئة الصحية الملائمة للعمل ووفرت له كل أسباب التعلم والتدريب ومنحته من الحوافز والمستوى المادي ما جعله يحصل على العيش الكريم ( ولو بحده الأدنى) واتخذته شريكا في الإنتاج يحس بكرامته في المنظمة مما ولد عنده الولاء والانتماء والفخر بالمنظمة ليبذل كل ما لديه في سبيل تحقيق أهدافها لأنها تتكامل مع أهدافه الشخصية والاجتماعية.
[1] قاموس المعاني على شبكة الإنترنت: https://www.almaany.com
[2] مشروع الموقع الإلكتروني بجامعة الملك سعود، تفسير القرطبي للآية (55): http://quran.ksu.edu.sa