مقدمة: الروح الخفية للشركات
في قلب كل شركة، سواء كانت صرحًا شاهقًا أو ورشةً متواضعة، يوجد ميزانٌ خفيٌّ لا تراه الأعين، لكن تدركه العقول، فأثَرَهُ يَسْرِي في كل كيانها سلبا أو إيجاباْ. إنه ميزان "العدالة" التي إن تحدثنا عنها؛ فإننا لا نتحدث عن رفاهية إدارية، بل عن الروح التي إن سَرَت في جسد الشركة، وهبَتْها القوة والحياة، وإن غابتْ أو غُيِّبَتْ عنها، أصبحت الشركة مقبرةً للأحلام ومدفناً للمواهب، وأضحت بعد ذلك نذيرَ شؤمٍ يُؤذِنُ بخرابها ولو بعد حين، وإن كانت أرقام أرباحها تقول غير ذلك.
الكارثة تبدأ حين يَضِلُّ مفهوم العدالة طريقه الصحيح، ليقع أسيراً لمغالطاتٍ فلسفيَّةٍ خطيرة حين تتشكَّل في ذهن ربِّ العمل أو القيادات العليا، أو حتى الموظف نفسه. لأجل ذلك سنحاول تشريح تلك المغالطات الفلسفية التي قد يظن أصحابها أنهم على حق سواء بقصد منهم أو بغير قصد، وسيتم بيان أثر ذلك على الشركة والفرد على حد سواء.
1️⃣ المغالطة الأولى: فلسفة الربح المشوَّهة في ذهن ربِّ العمل أو من يمثِّله
تظهر هذه المغالطة حين يكون الإدراك مشَوَّشاً والفِكْرُ مَصْلَحِيٌّ أو حين تتحول القيم والأخلاق الحسنة إلى مادة فلسفية هلامية... ومنها قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"([1]).
كما أن تلك الإدراكات المشوشة قد تظهر بسبب "شُحٍّ مُطَاعٍ وَهَوَىً مُتَّبَعٍ"([2])... فإنهم يقعون في فخّ تعريف العدالة تعريفًا مضلِّلاً، مفاده أن: «كل ما يحقق أقصى ربح للمؤسسة فهو عدل». ولعل هذا التعريف يتقاطع مع ما عبّر عنه الاقتصادي ميلتون فريدمان في مقاله الشهير عام 1970 بعنوان The Social Responsibility of Business Is to Increase Its Profits، والذي قرر أن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للشركات هي تعظيم أرباح المساهمين. ([3]).
إن هذا التّصوَُر المادي النفعي البَحْت، يتسبب في فصل العدل عن العروة التي ينبغي على القيادات أن تتمسك بها، فتكون النتيجة تصرفات وسلوكيات غير مؤسسية، تعتبر أن الموظف أداة في آلةٍ للإنتاج؛ أو كتِرْس في عجلةِ تسيير العمل، دون الأخذ في الحسبان أن الموظف ما هو إلا كتلة مشاعرٍ وأحاسيس وأفكارٍ إن تم تجاهلها أو قهرها تبددت طاقته وقلّتْ إنتاجيته... كما سيصبح من "العدل" حرمان الموظف الكفء من الترقية، بحجة أن بقاءه في منصبه سيوفر التكاليف، ويضمن استمرارية العمل، دون مراعاة لحقه في النمو، بل قد يُنْظَرُ إلى هذا القرار في هذه الحالة أنه ليس ظُلْمًا، بل "قرار استراتيجيَ".
إن هذه العدالة المزعومة تذبح المواهب بسكاكين المحسوبية، وتحوّل طاقة الموظف من وقود للإبداع إلى وقود للاحتراق النفسي الصامت... وفي كلتا الحالتين تصاب المؤسسة بالنزيف الحاد المتمثل في مغادرة الكفاءات، وعدم تكوِّن جيل من الخبراء... ويصبح الخاسر الأكبر في كل ذلك المؤسسة ومُلاَّكها، وهنا يصدق فيهم المثل " على نفسها جنَتْ براقش".
2️⃣ المغالطة الثانية: فلسفة الأنا الهشّة في نفس الموظف
على الضفة الأخرى، يقف موظفٌ قد يكون ضحيةً حقيقيةً لما سبق بيانه، ولكن أحيانا قد يقع هو أو غيره من الأفراد أسْرى مغالطةٍ أخرى يمكن تسميتها بـ "الاستحقاق الذاتي"، وذلك حين يرى الموظفُ العدالةَ من منظورٍ شخصيٍّ ماديٍّ بَحْتْ: فلسفتها لديه أن "كل ما لا يَصُبُّ في مصلحتي فهو ظلم"...
...ولذلك ينبغي التنويه هنا إلى أهمية الفهم الصحيح لمفهوم الرزق كما قررته الآية الكريمة " ورزقكم في السماء وما توعدون"([4]) واليقين بأن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق ويقدرُه: " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر"([5])... وقبل ذلك وفي أثنائه وبعدَه الأخذ بالمنهج الصحيح والآمن "المنهج الإلهي"... أولاها ما تم ذكره آنفا من " حب الخير للغير" وما قرره الله تعالى بقوله: "وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر" ([6])...وثانيها من الأمر بالقسط في التعامل، كما قال الله تعالى " اعدلوا هو أقرب للتقوى"([8]) ، وفي خاتمتها أن يتذكر قول الله تعالى : "بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ولو ألقى معاذيرة" ([9]).
3️⃣ الطريق إلى الميزان المعتدل: ما وراء الربح والأنا
بعد استعراض ما سبق ينشأ سؤال مهم، أين هو الميزان الحقيقي؟... والإجابة تكمن في فلسفةٍ تتجاوز "عدالة الربح" و"عدالة الأنا" لتصل إلى "عدالة القيمة المشتركة". هذه الفلسفة لا ترى تعارضًا بين نجاح المؤسسة وكرامة الموظف... ويتجلى ذلك في فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه... وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا..."([10]).
وأن يعي الجميع هذه الحقيقة الإدارية التي تقول: "الإنتاجية العالية لا تلد العدالة، بل العدالة هي التي تلد الإنتاجية العالية."
وهذا لن يتجسد إلا عبر "القيادة الخادمة"... متمثلا قواعد الإسلام في التعامل ومنها قوله تعالى " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" ([11]) والآيات والأحاديث التي سبق ذكرها آنفا، وأن يمتثل الجميع قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" ([12]) و "من غش فليس منا"([13])، كلها قواعد جوهرية في الإدارة... ولتقرير مثل هذه القواعد الذهبية في التعامل وصولا لتلك البيئة الذهبية الخالية من المغالطات الفلسفية، من المهم أن تضع الشركة ميثاقا عمليَاً للكرامة يتضمن:
خاتمة: دعوة للقائد... ميزان الدنيا أم ميزان الآخرة
إلى كل رب أو قائد عمل، تذكر أن مصلحتك الحقيقية... وثق بأن "ما خسرَ تاجرٌ صدق مع الناس، وما خَرِبَتْ قلعةٌ أُسِّسَ بنيانها على العدل".
وأخيرا كلمة لرب العمل والموظف: إن منح الحقوق أو القيام بالواجب ليس تفضلاً من أحد، بل هو ما يقتضيه واجب التعامل بين الناس، وهو أساس عمق المصلحة الحقيقة للطرفين... لأن تمنح الحق وأن تقوم بما يجب عليك عن فهمٍ في دنياك وهذا هو ميزان التعامل في الدنيا، خيرٌ لك آلاف المرَّات من أن يُقتَصّ منك في ميزان الآخرة.
"فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)"([14])
المصادر والمراجع: