عندما تُصبح إدارة الموارد البشرية في اليمن… مهارة بقاء!
في نهاية يوم عمل شاق، دار حديثٌ عابر مع أحد قادة الموارد البشرية، حديث لم يكن عاديًا… بل كُتبت كلماته بمداد الألم، وريشة خوض التجربة:
قال لي: "واقعُنا اليمنيّ يُثير من الصعاب ما لا يمكن تجاهله، وتحديدًا في إدارة الموارد البشرية…" قالها ليُبرز مشهدًا يُلخّص معاناته، وما تعانيه معظم الشركات اليمنية الممتدة على خارطة الوطن، شمالًا وجنوبًا.
ثم أردف قائلًا، وهو يتنهّد بحرقة:
"نحن لا ندير إدارةً واحدة… بل ندير تناقضات لا تنتهي!"
تناقضات حقيقية، لا مكان فيها للمنطق: ما بين تخوّفات أرباب العمل، وما يضطرهم إليه تقلبات الواقع، وتوسّع حاجات الأفراد في ظل الغلاء، يقابله حصار اقتصادي من جهة، ومن الجهة الأخرى انهيارات متكررة لسعر العملة، وما بين متطلبات الحكومة غير الموحدة شمالًا وجنوبًا، وتقف فرق الموارد البشرية في حيرة تتجدد وتشتت لا يتبدد.
ولعل من أبرز الأمثلة:
- تحكُّم العديد من أرباب العمل في قيادة مؤسساتهم، بسبب ضعف البناء المؤسسي، مما يولد مخالفات ومشاكل عمالية وقانونية لا تنتهي.
- ضعف التدريب، وقلّة البرامج النوعية، وارتفاع أسعارها مقارنة بقدرات المحتاجين إليها.
- اختلاف إجراءات مكتب العمل من محافظة لأخرى.
- تباين أقساط التأمينات الاجتماعية شمالًا وجنوبًا.
- اختلاف آليات صندوق تنمية المهارات بين الشمال والجنوب، وشكاوى المسؤولين عن إدارات الموارد البشرية ومراكز التدريب من تعقيدات التعامل معه.
- صعوبة دفع المرتبات في المناطق المختلفة، خاصة للشركات التي تمتلك فروعًا موزعة شمالًا وجنوبًا.
- تقلص الأعمال وتدهور كثير من الشركات، مما تسبب في وجود فوائض عمالة تتزايد يومًا بعد يوم، ومن جهة أخرى زيادة المعروض منها، مما يؤدي إلى تدني المرتبات.
- تعذُّر حصول كثير من طالبي الوظائف من محافظات الشمال على فرص عمل في محافظات الجنوب بسبب تفاوت سعر العملة.
وواصل حديثه بصوت متهدّج، قائلًا:
"ورغم كل ما سبق، يُطلب منّا أن نكون محترفين، متّزنين، متفائلين… وكأننا نعمل في بيئة مستقرة، لا تعرف الازدواج، ولا تصطدم كل يوم بتفسيرات متضاربة لنفس القانون!"
وهنا، يمكن تلخيص المشهد في خمسة محاور:
1. إدارة الموارد البشرية في اليمن… ليست وظيفة بل مقاومة يومية:
يمكن أن ندرك مما سبق أن إدارات الموارد البشرية في اليمن لا تمارس عملًا تقليديًا… بل تُجسّد فنَّ البقاء المهني وسط تعقيدات خارجة عن الإرادة. هذه الإدارات أصبحت الجبهة التي تُوازن بين الانقسام والاتساق، بين النص والاجتهاد، بين الواقع والطموح.
في خضم كل ذلك، تقف إدارة الموارد البشرية عند "النقطة الفاصلة" بين الحفاظ على كيان المؤسسة… والانهيار الصامت.
2. عندما تصبح المرونة… استراتيجية بقاء وطنية:
في خضم واقعٍ معقّد، تتشابك فيه السياسة بالاقتصاد، وتتقاطع الجغرافيا مع الإجراءات، تقف إدارات الموارد البشرية في اليمن على خط تماس مباشر… مع معاناة المؤسسات وأحلام العاملين فيها. وليس سرًّا أن الشركات الممتدة عبر المحافظات تواجه تحديات إدارية تفوق الوصف، كما سبق تبيانه.
هنا، لا نطالب بتوحيد القوانين بقدر ما نُناشد بتوحيد الإدراك لقيمة استمرار المؤسسات. فالشركة التي تنهض في صنعاء أو عدن أو تعز أو المكلا، ليست ملكًا لصاحبها فحسب… بل هي مساحة رزق، ومصدر أمل، وفرصة وطنية لمئات الأسر.
ومن هنا ينشأ هذا التساؤل المشروع:
لماذا يجب أن نُبقي المؤسسات حيّة؟
والإجابة البدهية: لأن المؤسسة ليست أرقامًا ولا طوابع ختم، بل هي:
- مائدة طعامٍ لعائلة.
- فرصة حياة كريمة لشابٍ مقبل على الحياة، وأُسرٍ متعبة، تكابد شظف العيش.
- مصدر سكينةٍ لمديرٍ يرفض تسريح موظفيه، لأن ذلك واجب ينبغي أن تسانده بيئة داعمة، وحكومة مُمكِّنة.
وإلا… إذا سقطت المؤسسات، فمن سيرفع دعامات الوطن؟
كما تزداد خطورة هذا السؤال حين نعلم أن آثار الانهيار المؤسسي لا تتوقف عند حافة الاقتصاد، بل تطال الحياة اليومية للناس، وصحتهم، أسرهم، ومستقبل أطفالهم، وتشير بعض الإحصائيات:
- أن (609,808) طفلًا دون سن الخامسة في اليمن يعانون من سوء تغذية حاد، منهم (118,570) في حالة حرجة.
- وأن (222,918) امرأة حامل أو مرضع يُعانِين من نقص غذائي حاد، يحتاج إلى تدخل علاجي مباشر.
- وتشير التقارير الدولية إلى أن أكثر من (1.4) مليون امرأة حامل أو مرضع، ونحو (50%) من الأطفال في بعض المحافظات الساحلية، يعيشون تحت خطر الانعدام الشديد للأمن الغذائي.
في ضوء تلك الأرقام القاسية وغيرها، يتضح أن المؤسسات والشركات ليست مجرد كيانات اقتصادية… بل أصبحت وحدات إنقاذ مجتمعي، وبقاؤها ضرورة إنسانية قبل أن تكون ترفا اقتصادياًّ.
4. كيف تتعامل الشركات اليمنية مع تناقضات الواقع؟
وسط هذا الاضطراب المتتالي ، والضبابية المستمرة، لم تجد المؤسسات والشركات أمامها فرصاً سوى محاولة التكيف والصمود، وهذا التكيُّف يكلفها الكثير، والكثير. والسؤال الأهم هنا: إلى متى يمكنها مواصلة الصمود؟
وكم من الشركات ينبغي أن تنهار حتى يتحسن الوضع؟
وبل والأهم، من هو المستفيد من كل ذلك؟
5. ثلاث رسائل من قلب التجربة:
أ. إلى صُنّاع القرار:
أعطوا للمؤسسات حيّزًا آمنًا تنمو فيه وتستمر، ولا تجعلوها ضحيةَ خلافاتكم.
فالاقتصاد لا ينتظر انتهاء الجدل، والشركات لا تكبر في ظل عدم الاستقرار.
اتركوها تعمل… فهي إن استقرّت، سيعمّ خيرها الجميع دون استثناء.
ب. إلى أرباب العمل:
ليس عيبًا أن تُراجعوا وتطوّروا أنظمتكم المؤسسية، وأن ترعوها وتُعطوها الفرصة أن تنمو وتنضج لتقود، بدلًا من أن تُقاد مؤسساتكم بنظرية الرجل العظيم.
فكما أن الفردية سُمّ الاستمرارية، فإن الأنظمة المؤسسية الناضجة محركها ووقودها.
ج. إلى قادة الموارد البشرية الشباب:
أنتم الخط الأول في معركة البقاء… اصمدوا ولا تيأسوا.
أنتم من يصنع الحلول في شركاتكم حين تتكدس المشكلات، وأنتم من يُبقي نبض المؤسسة حيًّا، وإن تنافرت المرجعيات.
الرسالة الختامية – من القلب إلى الميدان:
لنبذل جهدنا حيث نقدر… ونزرع الوعي حيثما استطعنا. فهذا ما بأيدينا… وهو ما لن يُقصِّر فيه المخلصون."
وصحيح أننا لاملكُ زمام القرار، لكننا وبكل يقين - صناع الأثر، ولتكن جهودنا أنوارا تضيئ دروب المستقبل.
اجعلوا من مهنيتكم جسورا تصل الكفاءات بمؤسساتكم، لا جدراناً تحُوْل بينها وبينهم.
وقولوا للواقع: نعم، نعيشك… ونتجرّع قسوتك، لكننا لن نستسلم لك… بل سنتجاوزك، ومعنا كل محب ومخلص لهذا الوطن المعطاء.
ابدأوا ولو بخطوة واحدة فقط:
اجتمعوا كقادة موارد بشرية في كل محافظة.
أنشئوا مجموعات تبادل معرفي مهنية محايدة.
وثّقوا التحديات، وشاركوا الحلول، واعملوا معًا.
واعلموا أن الظروف لن تنتظرنا حتى تستقر مؤسساتنا.
لكننا بفضل الله قادرون على أن نُنشئ من رحم الفوضى… مسارًا نحو التقدم بثبات.
"فبقاء المؤسسات والشركات ليس رفاهية… بل هو، ببساطة: أملٌ وطن."