تُشكّل إدارة المواهب في عصرنا الحالي أحد أهم الأركان التي تقوم عليها المؤسسات الساعية نحو التميز والتنافسية. ففي بيئة الأعمال المتغيرة، وتحت ضغط التحديات المتزايدة في السوق، تبرز أهمية الاستثمار الفعال للطاقات البشرية. وتُعدّ "إدارة المواهب" بمثابة البوصلة التي تُرشد المؤسسات نحو استقطاب الكفاءات المتميزة، وتطويرها وتنميتها، وتمكينها من تحقيق أهدافها الشخصية والمهنية، في إطار تحقيق أهداف المؤسسة ورفع مستواها التنافسي.
في السطور القادمة، سيتم استعراض مفهوم إدارة المواهب وأهميتها ومكوناتها الرئيسة، مع تسليط الضوء على دور الثقافة المؤسسية والتكنولوجيا وقناعات أرباب العمل في تعزيز هذه الإدارة وتحقيق أهدافها الاستراتيجية. فهل أنت عزيزنا القارئ مستعد للانطلاق في رحلة لاستكشاف عالم إدارة المواهب؟
الموهبة عبر التاريخ: رحلة في التقدم البشري
تُعَدُّ الموهبةُ المحرِّكَ الأساسيَّ لتقدُّم الحضارات وبناء المستقبل، ففي قلب الحضارة الإسلامية، التي ازدهرت بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلادي، بلغت رعاية الموهبة ذروتها مع تأسيس مراكز علمية رائدة، مثل: بيت الحكمة في بغداد، الذي كان منارةً للعلم والمعرفة في العالم القديم. في تلك الأروقة والورش العلمية، برزت أسماء لامعة كابن سينا في الطب، والخوارزمي في الرياضيات، والبيروني في الفلك، وغيرهم كثيرٌ ممن صاغوا علوما شكّلت منارات أضاءت دروب الإنسانية وأسهمت في تطورها.
لم تظل تلك الإنجازات حبيسة حدودها الجغرافية أو الزمنية، بل أخذها الغرب ومنها شكلت أوربا الجسر العلمي نحو عصر النهضة في القرن الرابع عشر الميلادي. حيث، نهل من تلك العلوم علماء موهوبون مثل ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو وغيرهما، لتتواصل شرارة الإبداع بهم وبغيرهم من المواهب في العالم والتي شكلت ما نحن عليه اليوم من اختراعات وابتكارات مذهلة.
تطور رعاية الموهبة: من التاريخ إلى الحاضر
باستعراض سريع لتطور الإنجازات البشرية حول مفهوم الموهبة بصورة منهجية في العصر الحديث، فإن أول تاريخ بارز هو عام 1869، مع جهود فرانسيس جالتون وكتابه "وراثة العبقرية". في عشرينيات القرن العشرين، واصل جيمس كاتال ولويس تيرمان تطوير اختبارات الذكاء وأبحاث التفوق العقلي. بحلول عام 1947، تأسست الجمعية الأمريكية للأطفال الموهوبين ([1]).
وفي عام 1988، أُنشئ المجلس الأوروبي للإمكانات المتميزة لرعاية الموهوبين. ومع أواخر القرن العشرين، أصبحت إدارة المواهب محورًا رئيسيًا في استراتيجيات الموارد البشرية، تسعى المؤسسات من خلالها لجذب الكفاءات وتنميتها لتحقيق الريادة ([2]).
وباستقراء تاريخي للمفهوم الحديث لإدارة المواهب فإن هذا المفهوم ظهر رسمِيَّاً عام 1997 عندما أجرت شركة ماكينزي بحثها الشهير حول "الحرب من أجل المواهب"، وهو بحث هدف إلى تحسين الممارسات الإدارية وتعزيز أداء الشركات الأمريكية. جَسَّدَ هذا المفهوم نهجاً استراتيجياً يضع استقطاب الكفاءات البشرية وتطويرها في صميم اهتمامه، لضمان تحقيق التميز المؤسسي وتعزيز الميزة التنافسية. ويتجلى جوهر إدارة المواهب في وضع الشخص المناسب في المكان المناسب وفي الوقت المناسب، بما يضمن رفع كفاءة الأداء التنظيمي وتعزيز الاستدامة المؤسسية ([3]).
وعلى الرغم من تباين آراء الباحثين والممارسين في مجال الإدارة والموارد البشرية حول موقع إدارة المواهب—هل تكون جزءًا من أنشطة إدارة الموارد البشرية أم قسماً مستقلاً عنها؟ إلا أن هذا النقاش يظل مستمراً بسبب عوامل متعددة، أبرزها حجم المؤسسة، عمرها، ومستوى نضجها المؤسسي. كما يتباين الجدل حول المحاور الأساسية التي تستند إليها إدارة المواهب، سواء كانت مدمجة ضمن أنشطة الموارد البشرية أو منفصلة عنها، في المؤسسات العامة والخاصة. وفي ظل هذه الاختلافات، يمكن الإشارة إلى أن إدارة المواهب تعتمد على خمسة محاور رئيسية، تُشكِّل معاً منظومة متكاملة تهدف إلى تطوير قوة عمل متميزة وفعّالة. ([4]):
من وجهة نظرنا، هناك محور سادس وهو محور الثقافة والقيم المؤسسية، حيث تُعدُّ الثقافة والقيم المؤسسية (Organizational Culture) إلى جانب القيم الشخصية (Personal Values) ومدى التوافق بينهما، البوصلة التي تُوجِّهُ إدارة المواهب نحو تحقيق الاستقرار والتميز. فهي الروح التي تُنعش كيان المؤسسة والأساس الذي تقوم عليه جميع استراتيجيات إدارة المواهب. في المؤسسات الناجحة، تتألق ثقافة مؤسسية متينة وأصيلة يُجسِّدها قادة المؤسسة قبل موظفيها، ثقافة توازن بين الحفاظ على جذورها والانفتاح على التطور بما يواكب متغيرات العصر، لتعزز الابتكار وتحقق الاستدامة.
وتأخذ إدارة الموارد البشرية على عاتقها دور القائد في تفعيل وترسيخ تلك الثقافة، حيث تعمل على نشرها في كل أرجاء المؤسسة، مُعَزِّزَةً المبادئ التنظيمية ومواءمتها مع استراتيجيات إدارة المواهب، لضمان تحقيق الانسجام المؤسسي وبناء بيئة تُحفِّز الكفاءات على الإبداع والتميز.
كما شهدت إدارة المواهب تطورًا ملحوظًا من خلال نماذج عالمية متنوعة، مثل "نموذج بيرسن (Bersin Model)" والذي اقترحه في ضوء تحليله لتلك التغيرات الديموغرافية العالمية، مثل: انخفاض معدلات المواليد وتأخر سن الزواج وتنامي شيخوخة السكان، حيث تواجه مؤسسات تلك الدول المتقدمة تحديات مستمرة في استقطاب المواهب والحفاظ عليها. يشير هذا النموذج إلى أن هذه التحديات تتطلب إعادة تعريف المفهوم التقليدي للوظيفة، والانتقال نحو أدوار أكثر مرونة وشمولية. يقترح النموذج إطار " Four R" كنهج استراتيجي يتضمن: ([5])
يؤكد بيرسين أن تطبيق هذا الإطار يُمَكِّنُ المؤسسات من التكيف مع المتغيرات المستمرة في سوق العمل، وَيُنَمِّي الإنتاجية ويدعم الاستدامة التنظيمية.
إلى جانب نموذج بيرسن (Bersin) كأحد النماذج الرائدة في إدارة المواهب، الذي يتميز بربطه بين استراتيجيات المواهب وأهداف الأعمال عبر تحليل فجوات المهارات وتحسين عمليات التوظيف والتطوير، تظهر نماذج أخرى لا تقل أهمية عنه. وهي وإن اختلفت في توجهاتها وأولوياتها، فإنها تتكامل لتقدم حلولًا شاملة تدعم المؤسسات في تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
من هذه النماذج، يبرز نموذج ((CIPD، الذي يُقدّم إطارًا شموليًا لا يقتصر على جذب وتطوير المواهب، بل يشمل أيضًا تخطيط القوى العاملة، وإدارة الأداء، ومكافآت الموظفين، وبناء علاقات قوية داخل المؤسسة. هذا النموذج يُساعد المؤسسات على تحقيق التوازن بين تطوير الكفاءات الداخلية واستقطاب المهارات الخارجية بما يعزز استدامة الأداء.
وفيما يخص إعداد قادة المستقبل، يتميز نموذج(DDI) بمنهجه المتكامل الذي يشمل تحديد المواهب، وتقييمها، وتطويرها، وإعدادها للقيادة. يُساعد هذا النموذج المؤسسات على بناء فرق قيادية قادرة على تحقيق أهدافها في بيئة عمل ديناميكية.
على الجانب الآخر، نجد نموذج (Deloitte)لرأس المال البشري، (Deloitte's Human Capital Framework) الذي يركز على الاستثمار الاستراتيجي في العنصر البشري من خلال تعزيز القيادة على جميع المستويات، وبناء ثقافة شاملة، وإتاحة فرص تعلم مستدامة. ما يميز هذا النموذج هو اعتماده على أدوات تحليلية متقدمة، مثل: تقييم القيادة وتحليل فجوات المهارات، والتي تُسْهِم في توجيه الجهود نحو تحقيق التميز المؤسسي.
وفي سياق مشابه، يُلْقِي نموذج معهد SAS الضوء على أهمية خلق بيئة عمل محفزة ومتوازنة، تُركّز على تقدير الموظفين وتعزيز التزامهم. كما يولي أهمية خاصة لاستخدام البيانات والتحليل في دعم القرارات المتعلقة بإدارة المواهب، مما يجعله أداة فعالة لبناء قوة عمل ملتزمة ومنتجة.
من بين النماذج الأخرى البارزة، يظهر نموذج "The 4As" الذي يُركز على أربعة عناصر أساسية لإدارة المواهب: جذب الكفاءات Attract))، واكتسابها (Acquire)، وتطويرها Advance))، والاحتفاظ بها (Align). يتيح هذا النموذج إطارًا بسيطًا وشاملًا يمكن تطبيقه بسهولة لتعزيز إدارة المواهب في المؤسسات. كما يُعد نموذج (The 9-Box Grid) أداة فعّالة لتقييم الأداء والإمكانات، مما يساعد المؤسسات على تحديد النجوم الواعدة ووضع خطط لتطوير القيادات المستقبلية.
إلى جانب ذلك، يُعد نموذج القيادة التحويلية (Transformational Leadership Model) من النماذج المهمة التي تركز على تطوير فرق عمل ملهمة وفعّالة. يتميز هذا النموذج بثلاثة محاور رئيسية: الرؤية المشتركة، التي تُحفز الموظفين على العمل لتحقيق أهداف واضحة؛ التحفيز الفكري، الذي يشجع الابتكار والتفكير النقدي لحل المشكلات بطرق إبداعية؛ والاهتمام الفردي، الذي يُقدّم الدعم الشخصي للموظفين وفقًا لاحتياجاتهم وتطلعاتهم. يُسهم هذا النموذج في بناء ثقافة تنظيمية إيجابية تُعزِّز من تفاعل الموظفين والتزامهم.
وأخيرًا، يبرز نموذج كينغ (King Model) برؤيته التي تركز على الثقافة التنظيمية المستدامة ودور جميع الأطراف الفاعلة في تحقيق التكامل بين استراتيجيات إدارة المواهب وأهداف المؤسسة. يُركز هذا النموذج على قياس أثر إدارة المواهب لضمان تحقيق النتائج المرجوة وتعزيز الأداء المؤسسي.
ومن خلال استعراض هذه النماذج المتنوعة، نجد أنها تمثل دعائم قوية تُمكّن المؤسسات من بناء أنظمة فعّالة لإدارة المواهب، مما يُعزز تنافسيتها ويضعها في موقع الريادة، مستعدة لمواجهة تحديات السوق المتغيرة واستدامة نجاحها.
ومع انبلاج فجر الثورة الصناعية الرابعة مع بدايات العام 2000م، وَجَدَتْ إدارة المواهب نفسها تَعْبُرُ عَتَبَةً جديدةً من التحوِّل والتطوُّر، حيث أعادت التكنولوجيا رسم ملامح هذا المجال، لتأخذه من التقليدية إلى الابتكار، ومن الجمود إلى المرونة. في مقدمة هذا التحول، وقف الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) كقائد ثوري، يفتح أبوابًا جديدة أمام الموارد البشرية. لم يعد الأمر مقتصرًا على الإدارة التقليدية، بل انتقل إلى عصر تحليل البيانات الضخم (Big Data Analytics) ، وأن يميط اللثام عن الكفاءات أو الموهوبين بلمح البصر، بينما تتولى برامج أتمتة العمليات (Process Automation) الاستمرار بالارتقاء بالكفاءة التشغيلية وتقليل الأخطاء البشرية.
لقد أوجد ذلك تصميما مميزا لتجربة الموظف (Employee Experience) ليصبح عملاً إبداعيًا، يُفَصَّلُ حسب احتياجات كل فرد، كما تتيح التحليلات التنبؤية (Predictive Analytics) قراءة المستقبل، واستباق احتياجاته، ووضع خطط تعاقب تلائم متطلباته. وفي ظل هذه التحولات التكنولوجية، لم تعد إدارة المواهب تكتفي بالتركيز على التطوير المهني، بل اتسعت رؤيتها لتشمل الإنسان بكل أبعاده. حيث أصبحت رفاهية الموظف (Well-being) أولوية لدى المؤسسات لا غنى عنها، مما جعل المؤسسات تُنشئ بيئات عمل لا تدعم حصريا الصحة الجسدية والنفسية، بل تتعدى ذلك لِتُغَذِّيْ طموحات الأفراد واحتياجاتهم. وفي ذات السياق تجربة العمل عن بُعد (Remote Work) لم تعد خيارًا استثنائيًا بل واقعًا يعكس مرونة المؤسسات الحديثة، التي تُصَمِّمُ حلولًا مبتكرة تلائم إيقاع الحياة المعاصر. من خلال مرونة العمل وتصميم عقود ملائمة، يجد الموظفون التوازن بين حياتهم المهنية والشخصية، مما يرفع من مستويات التزامهم وإبداعهم.
وهكذا، تنكشف أمامنا صورة جديدة لإدارة المواهب: ليست مجرد آلية، بل فلسفة شاملة تضع البشر في مركز اهتمامها، وتُعيد تعريف علاقتهم بالمؤسسات. إنها ثقافة مؤسسية قوية تستند إلى قيم مرنة ومتجددة، تتكامل مع التكنولوجيا الحديثة وتُعانق المستقبل بثقة. إنها استراتيجيات لا تقتصر على الجذب والتطوير، بل تمتد لتمكين المواهب والاحتفاظ بها كأصولٍ لا تقدر بثمن.
ويبقى السؤال الأهم: هل نحن، كدول في العالم الثالث، جاهزون حقًا لمواكبة هذا التحول الجذري في إدارة المواهب، الذي يُعيد رسم مستقبل الأعمال عالميًا؟ الإجابة لا تكمن في امتلاك التكنولوجيا فحسب، أو الفهم العميق للنظريات، بل يَكْمُنُ في استعدادنا العملي لتبني هذه التغيرات واستيعابها. الأمر يتطلب ثورة فكرية قبل أن يكون تحولًا تقنيًا، ثورة تضع الإنسان في قلب كل استراتيجية، وتُعيد صياغة علاقتنا بالموهبة كأعظم أصولنا، وتُرسّخ ثقافة مؤسسية تُحفز الإبداع، وتُحقق الانسجام بين القيم والطموحات.
إن الاستثمار الحقيقي لا يكون في الآلات أو البرمجيات فقط، بل في بناء إنسان قادر على الإبداع والتأثير، إنسان يجد بيئة تدعمه وتحتفي بإمكاناته. عبر هذا الاستثمار، وبالاعتماد على ثقافاتنا العريقة وتقاليدنا القوية، ومع انفتاحنا على تطورات العصر، يمكننا خلق عالم أعمال أكثر إنسانية وأصالة. عالم يُحافظ على مكانة الإنسان العربي المسلم كجزء فاعل ومؤثر في معادلة الإبداع والابتكار.
اليوم، بين أيدينا فرصة ذهبية لإعادة تشكيل ملامح مستقبلنا، ليس فقط كمتلقين للمعرفة، بل كصُنّاع تغيير. فإدارة المواهب لم تعد رفاهية، بل هي ضرورة وجودية لعالم يزداد تعقيدًا وتنافسية. الإجابة ليست في انتظار المستقبل، بل في بنائه بأيدينا الآن.
والله الموفق
المراجع/ المصادر:
[1] د. محمد المسعودي "الموهبة" بين تاريخ الاكتشاف وتمكين الموهوبين، 10 نوفمبر ,2021: https://www.alarabiya.net/
[2] المرجع السابق
[3] المفاهيم الإدارية، موقع هارفرد بزنس ريفيو العربية،https://hbrarabic.coml,ru
[4] أحمد عفانة، مصطفى عثمان، دراسة تحليلية لواقع ممارسات إدارة المواهب في شركة أرامكو السعودية، ص: 146، دراسة منشورة في: مجلة العلوم التجارية، المجلد,21العدد ,02 13 ديسمبر 2022 , ص ص -342 362
[5]Josh Bersin, Josh Bersin: Talent scarcity isn’t going away. It’s time to re-think jobs altogether: Nov 9, 2023: https://www.hrdconnect.com/2023